فقد كان مالك بن نبي رحمه الله لاحظ أن المجتمعات الإسلامية تعاني من فرط تسييس، حيث إن هناك ميلاً عارماً إلى مطالبة الدول بأن تقوم بكل شيء على حين يظل معظم الناس غافلين عاطلين، وملاحظته -في ظني- في مكانها حيث إن كثيراً من الإصلاحيين على إختلاف مشاربهم يركزون بإستمرار على ما على الحكومات أن تقوم به من إصلاح نفسها، وإصلاح غيرها، على حين أن كثيراً منهم لم يستطيعوا المساهمة العملية في نهضة الأمة، وكأن إعتقادنا بأن كلام المرء جزء من عمله، جعلنا نظن أننا بالخطب الرنانة والمقالات البليغة والكتب ذوات المئين من الصفحات نستطيع أن نحل مشكلاتنا المستطيلة في الزمان والمستعرضة في المكان!.
في البداية أحب أن أؤكد أن من المهم أن يشتغل بعض الناس في العمل السياسي من خلال نشر الوعي بطبيعة هذا المجال ومن خلال ممارسة النقد ودخول الإنتخابات وتشكيل الأحزاب، إنني لست ضد هذا، ولا أهوّن أبداً من شأنه، ولكن الشيء الذي لا أرى أنه صواب هو الظن بأنه حين تقوم دولة حسب المواصفات المطلوبة سوف نتخلص من كثير الأزمات والمشكلات الموجودة.
إن هذا أحد أكثر الأوهام إنتشاراً، وكثير من الجماعات الإسلامية المشتغلة بالسياسة علقت كل توازنها على الحكومة العظيمة التي ستشكلها في المستقبل حين تصل إلى الحكم، وبما أن المجال السياسي، لا يتسع لكل الناس، ولا يستطيع كثيرون العمل فيه، فإن أعداداً كبيرة من شبابها عاطلون عن أي عمل دعوي أو إجتماعي نافع!.
وجود الدولة في الأصل شيء مكروه من النفوس، لأنها تمثل سلطة وقوة، وهي على المستوى الوظيفي أميل إلى أن تكون كابحة وضابطة أكثر من أن تكون بانية أو مُصْلحة، وإذا إستطاعت الدولة حماية النظم السارية وتطبيقها دون تحيز إلى جانب دعم إستقلالية القضاء وتسهيل حركة الفرد مع حد مقبول من المرافق العامة، فإنها تكون قد قامت بأشياء عظيمة جداً، ومعظم دول العالم ما زالت تخفق في تحقيق ذلك.
العمل الأساسي الذي يُنْتَظر من الجميع المساهمة فيه هو العمل الإجتماعي -بأوسع ما تحمله هذه الكلمة من دلالة-، في العالم اليوم قطاع يسمونه القطاع الثالث أو القطاع اللاربحي إنه شيء غير القطاع العام الذي تكون مؤسساته ملكاً للدولة وغير القطاع الخاص المملوك للأفراد، إنه القطاع الذي تملكه الأمة، مهام هذا القطاع أوسع بكثير مما نتصوره وإن الأمم من خلاله تستدرك على قصور النظم المختلفة، إنه يشكّل كرة أخرى على طريق العدالة الإجتماعية وإيصال الحقوق لأصحابها.
إن أنشطته تغطي حاجات أولئك الناس الذين لا يقع الإهتمام بهم تحت مسؤولية أي وزارة أو مؤسسة حكومية، وإنه يهتم بالقضايا التي لا تهتم بها أي جهة حكومية، وأستطيع أن أقول دون أن أشعر بالحرج: إن إتساع هذا القطاع يدل على نحوٍ قاطع على خيرية المجتمع وتضامنه وفاعليته وإستحقاقه بإسم مجتمع. وعلى مقدار ضيق هذا القطاع وضعفه يكون ضعف المجتمع وتفككه وخموله، وقد لا يستحق لإسم مجتمع ويكون جديراً باسم تجمع!
إن ما ينشر من إحصاءات عن هذا القطاع يدل دلالة واضحة على أن العالم الصناعي يتمتع بمجتمعات غنية بالمؤسسات والأنشطة اللاربحية. وقد إستطاع هذا القطاع أن يجمع من الناس في الولايات المتحدة الأمريكية عام 2002 مبلغاً قدره 212 مليار دولار، وهو رقم فلكي لا يمكن جمع نصفه أو ثلثه في أي دولة من العالم، في أمريكا مليون ونصف مؤسسة لاربحية وثلاثة وعشرون ألف مؤسسة وقفية، وفي فرنسا ستمئة ألف مؤسسة لاربحية، وفي إسرائيل ثلاثون ألف مؤسسة لا ربحية ويستوعب القطاع اللاربحي 11% من القوة العاملة هناك في العالم الغربي لكل ثلاثمائة شخص تقريباً مؤسسة لاربحية من نوع ما وعندنا في العالم العربي لا يحصل الـ (5000) شخص على أكثر من مؤسسة، أي إن الفارق يتمثل في خمسة عشر ضعفاً، ويجب أن نأخذ بعين الإعتبار إلى جانب هذا أن الذين يحتاجون إلى العون في مجتمعاتنا أكثر بكثير من المحتاجين في مجتمعاتهم.
إن هناك أشياء مشتركة بين الأمم، وهناك أيضاً خصوصيات لكل أمة، إن المجتمعات الإسلامية بحاجة إلى الكثير الكثير من المؤسسات اللاربحية وسأذكر منها هنا نماذج فقط:
ـ مؤسسات ومشروعات لدعم الإلتزام والمحافظة على الأخلاق والوقوف في وجه التحلل الخلقي عن طريق الإتصال المباشر والحوار مع الناس ووضع لوحات في الطرق وإعلانات في الصحف، بل إن القطاع اللاربحي يحتاج في الحقيقية إلى فضائية وإذاعات خاصة حتى نؤصل حب العمل الخيري في نفوس الناس، أضف إلى هذا تأسيس جمعيات لمحاربة العادات السيئة مثل الإدمان على التدخين والخمور والمخدرات ومثل عادات الإسراف والتبذير في المأكل والمشرب والملبس والمسكن وإرشاد الناس إلى بعض الطرق الاقتصادية في كل ذلك، كما هو الشأن في كثير من الدول.
ـ مؤسسات للإهتمام بالأسرة وتوجيهها في مسائل التربية ومساعدتها على حل المشكلات التي تواجهها وتوفير مرشدين تربويين ومرشدات تربويات لإصلاح العلاقات الأسرية وتنمية وعي الناس بأهمية التضامن الأسري، وتوضيح مسؤولية كل طرف في ذلك، ونشر عدد كبير من الكتيبات والنشرات التي تعلم الناس أصول التربية الجيدة، كما توضح لهم الأخطاء التربوية التي يقعون فيها.
ـ مؤسسات وجمعيات وروابط لدعم العلم والتعليم، حيث إن الدول ما عادت تستطيع توفير ما يكفي من المدارس والتجهيزات المدرسية لهذه الأعداد المتدفقة من الأطفال والفتيان، والتعليم الخاص الحالي هو أقل في كثير من الأحيان من المستوى المطلوب، وهو إلى جانب ذلك ينشر الطبقية الإجتماعية والمعرفية، فأبناء الأغنياء يجدون مدارس ممتازة لأنهم قادرون على الدفع، وأبناء الفقراء لا يجدون في بعض الأحيان حتى المدارس السيئة، وبعض الدول الإسلامية مثل باكستان لم تستطع إلى الآن إصدار تشريعات لجعل التعليم الابتدائي إلزامياً بسبب عدم قدرة الدولة على توفير المدارس الكافية، وهناك دول لا تستطيع توفير الكتب المدرسية لأبنائها كما هو الشأن في بلاد عديدة مثل إندونيسيا وهكذا..
قد آن الأوان ليقوم الناس بدعم التعليم الحكومي والمساهمة في توجيه أنشطته وممارسة نوع من الرقابة عليه بما يخدم التقدم العلمي في البلد، كما آن الأوان لتأسيس عدد كبير من المدارس الخيرية التي يجد فيها أبناء الفقراء فرصاً للتعلم، وفي بعض الدول مثل تركيا أنشئت مجالس كثيرة جداً لدعم التعليم الجامعي وتوفير منح للطلاب الفقراء، حيث إن الجامعات الحكومية لا تستوعب سوى 10% من المحتاجين للتعليم الجامعي.
إن من المهم أن تنظم حملات واسعة من أجل قيام الأثرياء بتأسيس شبكات من المدارس والمعاهد العلمية والتقنية لأبناء الفقراء والمعدمين والإنفاق عليها عوضاً عن تبذير المال في السياحة في الغرب أو إنفاقه على مظاهر كاذبة لا تزيد صاحبها إلا خبالاً وسأماً!.- في الأمة اليوم مظالم كثيرة، ولا يكاد يخلو مجلس من المجالس من ذكر مظلمة من المظالم! وقد صارت مهمة المحامين في كثير من الدول الإسلامية -مع الأسف الشديد- طمس الحقيقة وإضاعة الحقوق والعمل على تأجيل المحاكمات إلى ما لا نهاية وتسربت الرشوة إلى سلك القضاء مع إستثناءات مقدرة!
إن هذه الوضعية تستلزم قيام مؤسسات وروابط ومنظمات لنصرة الضعيف ورفع الظلم عن المظلوم ومؤازرة المضطهد وفضح أشكال الحيف، وقد أثنى صلى الله عليه وسلم على حلف الفضول الذي أقامته قريش في الجاهلية، وحضره عليه الصلاة والسلام وقـال: «ولو دعيت إلى مثله لأجبت»، وقال أيضاً في حديث صحيح: «إنه لا قُدَّست أمة لا يأخذ الضعيف حقه فيها غير متعتع».
إن التعليم والقضاء يشكلان محورين أساسين في حياة أي أمة وإن في فسادهما فساد الحياة كلها، فعلينا أن نصلح من شأنهما قدر الإستطاعة ولن يكون ذلك إلا من خلال توفير رقابة شعبية واسعة، ولن تكون تلك الرقابة فعالة إذا لم تنظم وتؤطر على نحو جيد.
ـ الأمية في العالم الإسلامي ضاربة أطنابها، ومازال المعدل الوسطي لها يدور في فلك الـ40% وهذا شيء مخيف في زماننا فقد إحتفلت اليابان بتعليم آخر أمي في أواخر القرن التاسع عشر، ولدينا أناس يعرفون القراءة والكتابة لكنهم لا يقرؤون. وكما قال أحدهم: ما الفرق بين الأمي وبين من يحسن القراءة والكتابة لكنه لا يقرأ؟! إن حالة القراءة وطلب العلم والحرص على معرفة الجديد في حالة من التردي المستمر في عالمنا الإسلامي.
والكتاب يفقد في كل يوم جزءاً من أرضه لصالح ما يمكن أن نسميه اللهو المطلي بالمعرفة وهذا يلقي علينا مسؤولية هائلة، إني أفترض أن يكون لدينا في كل حي من الأحياء مكتبة عامة يضعها أحد الأثرياء في زاوية من داره ليرتادها أهل الحي وتكون مكاناً لالتقائهم ومناقشة أمور حيهم، وأتعشم أن يكون هناك برامج لدعم الكتاب الجيد وأن يكون هناك من حانات للقراءة ومكتبات متنقلة لنشر العلم وإعارة الكتاب. وقد سبقتنا دول كثيرة إلى هذا، ولم يعد لدينا وقت لإضاعته، إن من غير شغف حقيقي بالعلم واتخاذه أساساً للتطوير لن نستطيع أن نتجاوز الأوضاع الصعبة التي نعيش فيها.
ـ العولمة تشجع الحكومات على أن تنفض يديها من كل الخدمات المجانية والرخيصة التي تقدمها، ومنها العلاج الصحي، والخدمات الصحية الحكومية في كثير من بلدان العالم الإسلامي في حالة من التدهور حيث يلجأ الناس إلى الطب الخاص، وهناك تجد أشكالاً من التحايل والإبتزاز مما يوجب قيام مؤسسات طبية لا ربحية يعمل فيها الأخيار من الأطباء وتتقاضى أجوراً تكفي فقط لتشغيلها، وقد قامت تجارب رائدة في بعض البلدان الإسلامية في هذا المجال، إنها تقدم أفضل علاج، لكن بسعر لا يزيد على 30% مما لدى غيرها. إني أتصور أن يكون هناك جمعيات للعناية بأصحاب الأمراض المزمنة والمستعصية وجمعيات لتوفير الدواء لمن لا يجد ثمنه وجمعيات لدعم المستشفيات الحكومية بالأجهزة وهكذا.
ولا أريد هنا أن أتحدث عن قضية الفقر لأنني سأفرد لها حديثاً خاصاً في المستقبل بإذن الله.
إن العمل الخيري التطوعي يستهدف أولاً الإرتقاء بنفوس فئة كبيرة من المجتمع وربطهم بالله تعالى وهذه الفئة هي العاملون والمحتسبون في المجال اللاربحي، ويستهدف ثانياً سد حاجات العناصر الضعيفة في المجتمع، وهي في عالمنا الإسلامي كثيرة جداً بل تشكل النسبة الأكبر من الناس، وسنظل نعيش على هامش العالم ما لم نبدع في إيجاد الحلول للمشكلات التي جاءت بها الحضارة المعاصرة.
والله ولي التوفيق.
المصدر: موقع د.عبد الكريم بكار.